عزيزتي حبيسة الأدراج..

عزيزتي حبيسة الأدراج..

Oct 30, 2025

عمر بدوي

عزيزتي حبيسة الأدراج..

في مكالمة جوال عابرة صباح اليوم، سألني أحد زملاء المهنة عما إذا ماكنت مستمراً في العمل في إعداد استراتيجيات التسويق الرقمي أو حتى في إعداد استراتيجيات الـmedia buying، لأن لقاءنا الأول قبل عشر سنوات كان عرض استراتيجية الاتصال الرقمي للجهة التي كان يعمل بها، فذكرني بأقرب الأعمال إلى قلبي والأكثر احباطاً في ذات الوقت.


الاستراتيجية.. 

كما الكثير من المصطلحات، المشكلة ليست في الكلمة بل فيما فعلناه بها، كلمة ولدت لتقود توجه، فأصبحت تستدعى الآن لتبرير حقوق الفيتو في الاجتماعات حينما نسمع "ماهي ماشية مع الاستراتيجية"، كانت الشرارة الأولى في عالم الإعلان فأصبحت ملف باور بوينت أو كي نوت (فوق البيعه)، وفي أفضل أحوالها تكون ملف يثبت قدرة الوكالة أو الشخص الذي عمل عليها على البحث والإبهار في عرض المعلومة.. لتصبح في النهاية "ملف مرتب" و ديكور تكسب به الوكالة ثقة الجهة "وتنبسط" عليه الإدارة ثم تبقى حبيسة الأدراج لا تؤدي دورها في اجابة السؤال ما يجب أن نفعل، أو حتى في إجابة سؤال أقل تعقيداً وهو ما هو مالا يجب فعله.



لماذا فقدت الاستراتيجية الهيبة وأصبحت حبيسة الأدراج؟

عامل الوقت:

ظلمت الاستراتيجية لأسباب عدة، أولها عامل الوقت، أصبحت عمل سريع وتحليل مكرر بلغة منمقة فقط، ليس لأن الاستراتيجيين تغيّروا، بل لأن البيئة من حولهم توقفت عن التقدير، وتطلب الاستراتيجيات أحياناً في أيام ما قبل البدأ في العقد. مما يجعل من أهداف أصحاب المصلحة المتعلقة بالاستراتيجية إنجازها في أسرع وقت ممكن، لتتمكن الجهة أو العميل من بدأ إرسال طلبتها اليومية التي لا تُحد بالضرورة باستراتيجية ما وتعد من البديهيات، وتبدأ الوكالة في تنفيذ إطار العمل وتصبح قادرة على الفوترة محفزة بنتائج شهرية وربعية وسنوية.



التكرار، والبديهيات:
عندما تفقد الثقة في أهمية الاستراتيجية من ناحية، ولا تطبق عندما تكون جيدة ويبنى عليها من جهة أخرى،ثم يأتي عنصر ضيق الوقت مجهزاً عليها بالكلية، تحول لملفات نسخ ولصق، بل وأحياناً لملفات (ترهيم) شريحة من هنا وشريحة من هناك يمكن تطبيقها على الكثير دون أن تطرح تحولاً يذكر أو رأي قوي يقود توجه التسويق ككل أو حتى تقود توجه عنصر محدد فيه. 

وفي أحوال أفضل، تغرق الاستراتيجيات في البديهيات ثم تضيّق أفق العاملين تحت مظلتها لتخلق بالتالي اطار معجز لفرق الإبداع.. 


"معظم الحملات اللي سويناها وضربت كان بريفها واضح لكن قليل منها جاء من استراتيجية، ومعظم الاستراتيجيات ما كانت مقترحة توجه جديد يفتح لنا باب في التفكير، لكن اللي استراتيجيات التواصل اللي جتنا وفتحت باب جديد لـ Communication platform في حالة الدرعية "مستقبل تاريخي" مثلاً لأن توجه الاستراتيجية كان (لا تتكلموا عن الإرث فقط، لأن المستقبل بنفس الأهمية للجمهور المستهدف من الحملة)  " فيصل العبرة - كبير مديري الإبداع في TTP.

 

الخوف:

حسب تقرير WARC "The Future of Strategy 2025"* عن مستقبل الاستراتيجيات، فنصف العاملين في قطاع الإعلان يرون أن الخوف هو أكبر عدو للاستراتيجية،
خوف من الخطأ. خوف من المجازفة. خوف من العميل. خوف من الوقت. وخوف من ألا يحب أحد الفكرة. ورجوعاً لعامل الوقت هنا، أحياناً ما تكافئ السرعة والكمية لا الدقة، AdHoc هنا، تفاعل مع ترند هناك..
بمعنى أن العلامات التجارية تكافئ في الغالب من ينفذ أكثر لا من يفكر أعمق، بالتالي أصبح الكثير من كتاب الاستراتيجية يتجهون للمسلك الآمن في التفكير والنموذج بدلاً  التفكير وإعادة التفكير بسبب 

وإن لم تنتج الاستراتيجية تفكيراً جديداً فلن يستدعي البناء عليها تغير ملحوظ في طريقة تناول العلامات التجارية لعملية الترويج، وبالتالي زيادة في قلة الإيمان بفكرة أهمية الاستراتيجية.



ما الثمن؟

طيب، إذا كان المنتج السريع يكافئ أكثر من البطيئ المتقن، ومعظم الاستراتيجيات التي تكتبها الوكالات وشركات الاستشارات التسويقية نسخ ولصق بلا تفصيل في بعض الأحيان بسبب الأسباب السالف ذكرها، ناهيك عن مدى اتباع الاستراتيجية إن كانت جيدة، فما الثمن الذي ندفعه عند التخلي عنها.. أو على رأي الغربيين.. Why bother?!

ثمن العيش في ردة الفعل..ثمن عدم وجود بوصلة أساسية للتوجه التسويقي هو العيش في ردة فعل العلامات الأخرى لتصبح العلامة التجارية بلا هوية واضحة تفعل ما يفعله الجميع لأن "نتايجه رهيبة" أو التحول لحرب الطلبات التكييكة رهينة رغبات اعضاء الفرق من أصحاب المصلحة.


فقدان المعنى..
الميديا يريدون الوصول للجميع، وفريق الكريتيف يريدون الإبهار والجوائز والإدارات تريد أرقام في المبيعات ولا يوجد ما يجمع بينهم. لأن غياب الاستراتيجية يؤدي لغياب مرجع الحكم على النجاح أو الفشل ومابينهم من ناحية، ومن ناحية أخرى ربما يؤدي لتواجد العلامة التجارية فعلاً بحجم كبير من الاستثمار فعلاً لكن بأثر منخفض أو بأثر لحظي مرتفع..



الشجاعة تصبح ثمنها أعلى..
لنتخيل مثالين، شركة تتبع استراتيجية واضحة، ومن أهدافها لفت الإنتباه باتباع مسلك ابداعي شجاع، أما الأخرى فلا تتبع استراتيجية واضحة.. كليهما سيشاركون في حملة موسمية واحدة لأنهم في نفس القطاع، وكليهما بمسلك ابداعي جرئ.
من منهم يحتمل رد فعل سلبي على حملتهم بسبب شجاعتهم بشكل فادح يضر العلامة التجارية ويتعدى ذلك لإيذاء الإيرادات؟

أكيد الأول، والسبب الأول لأنه متسّق مع ذلك، فما يصح للعلامة التجارية "س" التي مهدت لصورتها الذهنية عبر أعوام طويلة من خلال التجربة وتمديد "خلق" المتلقي لرسائلها لا يصح للعلامة التجارية "ص" المتخبطة.
لذا، فقد التوجه الاستراتيجي، حتى وإن لم تكتب الاستراتيجية على الورق، يعلي من ثمن الخطأ الواحد. والنتيجة تتحول الثقافة التنظيمية مع الوقت للسلامة من الفشل، بدلاً من البحث عن الأفضل أو حتى تحسين الموجود.

ثم.. أعمال ابداعيه باهته، وإن كانت جيدة في ذاتها لا تجد فيها ملمح الجهة، للتتشابه هي واختها، ويصبح من يصفق له الفكرة، لا صاحب الفكرة، وتذكر الفكرة ونكته الإعلان، لا العلامة التجارية… وتكتيكات تسويقية مقلدة بشكل لا يخلق فرقاً في طريقة استيعاب الرسالة بين تلك العلامة وذات العلامة.



طيب.. ما الحل؟


وصلة الـBusiness

أظن أن إعادة وصل فرق الاستراتيجية بالبزنس الحقيقي بدلاً من سجن لغة اختصارات الـ frameworks ربما يؤدي دور في رقمنة أهدافها وتمحيص توجهاتها من خيالات العوالم المثالية لأرض الواقع. 

الاستراتيجي كصائغ وليس كصانع

ربما كون الاستراتيجية كصانع للاستراتيجية جزء من المشكلة، بسبب الإغراق في البديهات لمن هم في ذات الصناعة، فيضيع بها جزء كبير من ملف الاستراتيجية في شرح بداهات الكل يعرفها وربما متفق عليها إيضاً مما يؤدي لملل يٌخرج به قارئه من السياق المهم للإستراتيجية كخارطة طريق، في حين أن الاستراتيجي كصائغ لها وليس صانع وحيد يلعب دوره في ربط كل أصحاب المصلحة والسماع لهم وتجميع خططهم التكتيكية ضمن إطار أكبر يصيغ بها الخطة الكبرى مما يؤمن سلاسة في اتباعها.   



إيجاد صاحب للمشروع 

من المهم لأي مشروع أن تكون المسؤولية والصلاحيات في يد مدير هذا المشروع، وإشكالية مشاريع الاستراتيجيات أن الاستراتيجي نفسه في أغلب الأحيان يسلم الملف، ثم يرتحل لملف آخر، ولا يشرف على التنفيذ إلا في نوادر الأحداث وفي أفضل الأحوال سيعود في مراجعات ربعية ليرى ما حدث، لذا يجب أن تكون هناك خصائص في صاحب المشروع هذا ويجب ألا يكون صاحب مصلحة في الإنتهاء من تنفيذه وحسب وإنما يكون صاحب مصلحة في إتمامه بالشكل الصحيح، أي أنه إن كانت النية في أن يقوم فريق إعداد الاستراتيجية الإشراف على التنفيذ فكان بها، ويجب أن ترجع له الإدارات المختلفة في قبول المشاريع وإعداد الواجبات والمحاذير لكل مشروع. وإن كان مدير المشروع فيجب أن تكون أهداف مدير المشاريع هي القيام بالمشروع الصحيح في الوقت المخطط له وليس إتمام المشاريع بعددها وتسليمها. 



ربما آن الأوان لإستعادة التفكير الاستراتيجي لا كمجلد أنيق ولا كـ"ديكور"، بل كروح التفكير التسويقي نفسه. أن تكون رحلة من الأسئلة لا إجابات جاهزة، كمنهج تفكير يربط الإبداع بالنتائج، لا كملف معجز للفرق الابداعية ملئ بالمحاذير. أن نعيد للإستراتيجية في القرار لا في الأدراج.


مرجع إحصائية:  WARC "The Future of Strategy 2025 






انضم للبريد

ليصلك كل جديد TTP

انضم للبريد

ليصلك كل جديد TTP

انضم للبريد

ليصلك كل جديد TTP